الإنصاف من النفس، وهذه الصفة قل من يتحلى بها، وأكثر الخلق كما ترون على المكابرة والمعاندة، فلو أخطأ أحدهم خطأ مثل الجبل لأنكر وعاند، أما المؤمنون الذين يريدون كمال الإيمان فإنهم ينصفون من أنفسهم. وأثر
عمار فيه بيان أن الإنصاف من النفس من الإيمان، وهذا تؤكده سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صعد المنبر وقال: (
أيها الناس! من كان له مظلمة فليأخذها )، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالرحمة، وعلم الناس العدل والإحسان، وجاء بهذا الدين العظيم الذي لا يظلم في ظله أحد ولو كان كافراً، وأبعد ما يكون عن الظلم هو دين الإسلام وشريعته التي تأبى إلا العدل مع كل أحد، وفي ذلك يقول تعالى: ((
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ))[المائدة:2]، ومن تتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة الكرام يجد أن الواحد منهم كان ينصف من نفسه، ولا يكابر في خطأ أخطأه، وكان الواحد منهم إذا فعل ما ينبغي أن يعتذر منه في معاملة مع أي أحد فإنه يعتذر عن ذلك، بل ربما كان الواحد منهم محقاً، ولكنه يرى أنه لا بد أن يعتذر ولا يصر ولا يجادل، بل
كان من هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أنهم يتمنون جريان الحق على ألسنة مخالفيهم، وقد ذكر أن
الشافعي رحمه الله كان يقول في مناظراته: [
ما ناظرت أحداً إلا سألت الله عز وجل أن يجري الحق على لسانه ] ، وهذا من عظيم إنصافه، فلم يكن يبالي أكان الحق في كلامه أو في كلام خصمه؛ لأن المهم هو الوصول إلى الحق، وهذه هي أخلاق أهل النفوس العالية التي يجب أن يتربى عليها شباب الدعوة في كل زمان، فيجب أن تكون هذه من الخلال التي لا تفارق الإنسان، وأن يجتهد في إرغام نفسه عليها؛ لأنها صعبة وشاقة، ولولا مشقتها ما جعلها
عمار رضي الله تعالى عنه بهذه الدرجة وبهذه المنزلة، فكم يصعب على الإنسان أن يقول: نعم أخطأت أو تجاوزت أو قصرت، ولكن هنالك من الناس من أعطاه الله تبارك وتعالى هذا الخلق العظيم سجية وجبلة، وطبعه عليه، فمن جعل الله تعالى جبلته كذلك فليحمد الله، فإن الله عز وجل قد أعطاه أمراً عظيماً، قال تعالى: ((
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ))[فصلت:35]، فصاحب هذه الخصلة من ذوي الحظ العظيم، وإن لم يكن كذلك فليجاهد نفسه على أن يكون منهم بقدر المستطاع؛ ليحقق كمال الإيمان.إن مما يعين الإنسان على اكتساب هذه الصفة أن يتذكر أنه ما منا أحد إلا وفيه عيب، وما منا أحد إلا وفيه تقصير، وهكذا فطر الله تبارك وتعالى البشر، وقد جُعل المؤمن مرآة أخيه، فالواجب عليه أن لا يتمادى في خطئه إذا نصح، أو في ذنبه مهما كان، وعليه أن يرجع ويستغفر، ولهذا لم يثن الله تبارك وتعالى على أوليائه الصالحين بأنهم لا يذنبون؛ لأن (
كل بني آدم خطاء)، وكل واحد منهم معرض للذنب، ولكنه أثنى عليهم بقوله: ((
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))[آل عمران:135]، فكون العبد يذنب أو يخطئ ويقصر فهذا أمر لا بد منه، ولكن الإصرار على الذنب هو المشكلة، ولذا فعلى المرء أن يكون منصفاً.ومع أن هذه العبارة أكثر ما تطلق مع الخلق فإنه
من الواجب أيضاً أن يكون الإنسان منصفاً من نفسه في تعامله مع الله عز وجل، فيجب عليه أن يراجع نفسه، وأن ينصف من نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، وإذا لم تكن معاملتك بالإنصاف فإنك لست على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فإن من هديه صلى الله عليه وسلم العفو والصفح والإحسان والإنصاف ولو من نفسه أو من الأقربين، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صاحب الفضل على العالمين أجمعين، ولا حق لأحد عليه، ولم يحدث أنه صلى الله عليه وسلم أخطأ في حق أحد أو أساء إلى أحد، بل كان صلى الله عليه وسلم مثالاً لهذا الإنصاف، وكان يعلم أصحابه ذلك، كما في قصة الحبر
زيد بن سعنة الذي كان حبراً من أحبار
اليهود ، ووقعت منه تلك القصة العجيبة عندما قال: لقد عرفت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
التوراة ، ورأيت ما ذكر فيها واختبرتها فما بقي إلا صفة واحدة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم يقابل الجهل بالحلم، ولا يؤاخذ بالجهل، بل يعفو ويصفح -وكأن هذه هي عبارة
التوراة تقريباً في وصف النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فما هو إلا أن مرت أيام، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلي -و
زيد هذا غير مسلم- يقترض مني طعاماً قال: ففرحت وأقرضت النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، ثم إن
زيداً جاء قبيل موعد الأداء إلى رسول الله فجذبه جذباً شديداً، وكاد أن يؤدي ذلك إلى سقوطه صلى الله عليه وسلم وأغلظ عليه في القول وهو قاصد ذلك، وأخذ يجادل ويقول: يا محمد أعطني حقي، فوالله ما عهدناكم يا بني عبد مناف إلا قوم مطل، وهذا الكلام يقوله التجار عادة إذا فات لهم حق أو خشوا فواته، ولا يراعون حرمة المخاطب، وكان
عمر رضي الله عنه واقفاً بجواره فآلمه أن يقع هذا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يسيء هذا اليهودي الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهم يرون، فقال: (
يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر ! أو خيراً من ذلك أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء أو القضاء ) فأنصف النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه مع أنه لم يخطئ في حق اليهودي، وهذا هو الأدب النبوي، يا
عمر ! كن على العدل المستقيم، وأنصف هذا وهذا، مره أن يطلب حقه مني بأحسن الطلب، ومرني أن أؤدي حقه بأحسن الأداء والقضاء، فقال اليهودي مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ما أردت الطعام، ولا أردت المال، وإنما أردت أن أختبر صفتك التي قرأت في
التوراة ، فأشهد حقاً أنك نبي، وأنك لا تقابل الجهل بالجهل، بل تقابل الجهل بالحلم، وتعفو وتصفح.وهناك مواقف كثيرة جداً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصف فيها من نفسه، ويعلم أصحابه ذلك، ولهذا لم يكن أحد من الصحابة الكرام أو الخلفاء الراشدين يترفع أن يقال له: أخطأت، أو لقد ظلمتني وأخذت مالي، وإنما كانوا إذا حدث منهم شيء من ذلك رجعوا إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحكِّمون من يقضي بينهم بشرع الله، ولا يبالون أبداً في هذا، ولا يتحرجون؛ لأنهم يعلمون أنه
لا يجوز لمن قد أخطأ وقصر واعتدى أن يدافع عن نفسه، ويبرر لها الخطأ وينفيه عنها أو يستكبر عن سماع الدعوى ضده، فهم القوم الذين بلغوا الغاية في الإنصاف وفي العدل، وبهذا العدل أقاموا دولة الخلافة العظيمة التي عم نورها المعمورة شرقاً وغرباً، وبهذا العدل أقبل الخلق على دين الله أفواجاً، وأصبح الناس يتحاكمون إليهم، ويهربون من ظلم أقربائهم وذويهم وملوكهم إلى ظل هذا الدين، وحكم المسلمين الذي يجدون فيه العدل والحق. وهاهم كفار اليوم إلى الآن ما زالوا يتحدثون عن حقوق الإنسان والتي هي ضائعة مهدرة، ولا سيما الإنسان المسلم في كل مكان، أما هذا الدين فإنه بلغ الغاية في ذلك.فإذاً: الإنصاف من النفس خصلة عظيمة، ومنقبة كريمة، وخلق شريف لا يصح أن يفوت أحداً منا حظه منها، هذه أول الصفات التي ذكرها
عمار.